من فضائل الصمت

من فضائل الصمت

جمعها و رتبها: حمادي الموقـت

 

          يقال: إن الصمتَ أبلغ لغات الكلام...ويقال: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، ... وقال أحد الصامتين: إذا كان في مقدوري أن أتكلم، فليس في مقدور الصمت أن يزعج الذاكرة... قيل الكثير والكثير عن الصمت... لكن الكثير منا يعاني منه... فهل الصمت في المرء قوة أم ضعف؟؟

          نُقل عن أبي القاسم القشيري رحمه الله تعالى أنه قال: السكوت في وقته صفة الرجال كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال.  ومما يستفاد من كلام الشيخ أن الصمت والكلام شيئان متلازمان ومتساويان في القيمة، فإذا سكتت في وقت السكوت كانت فيك خصلة من خصال الرجال، معناه أن الرجل ليس هو الذي يُكثر في الكلام ويُقلّ من الصمت، أو العكس، بل الرجل من أصاب الصواب حال نطقه، أو صمُت صمتا حال كلام غيره، دون إفراط ودون تفريط.

          وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود أنه أخذ – يوما - بلسانه وخاطبه قائلا: يا لسان!! قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكثر خطايا ابن آدم من لسانه". رواه الطبراني. ومن هذه الخطايا الكفر والكبائر. فالرجل يتكلم الكلمة من سخط الله لايُلقي لها بالا تهوي به في نار جهنم سبعين خريفا، ويتكلم الكلمة من رضى الله لايلقي لها بالا ترفعه الدرجات العلا.

           وعلى العاقل أن يفكر في قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (سورة ق) فإنّ من فكر في ذلك علم أنّ كل ما يتكلم به من الجد والهزل والغضب يسجله الملكان فهل يسرُّ العاقل أن يرى في كتابه حين يُعرض عليه يوم القيامة هذه الكلمات الخبيثة؟ بل يسوؤه ذلك ويحزنه حين لا ينفع الندم. فليعتن بحفظ لسانه من الكلام مما قد يسوؤه إذا عُرِضَ عليه في الآخرة.

          عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصْل يحفظه من جلس إليه. وكان كثيرا ما يُعيد الكلام ثلاثا ليُعقل عنه، وكان إذا سلم يلّم ثلاثا. وكان طويل السكوت لايتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلام، فصل لافضول ولا تقصير، وكان لايتكلم فيما لايعنيه، و لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كره الشيء عُرف في وجهه، ولم يكن فاحشا و لا متفحشا، و لا صخابا. وكان جل ضحكه التبسم، بل كله التبسم، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجده". ص66-67 من كتاب زاد المعاد لابن القيم الجوزية، دار ابن حزم، ط1 1420-1999.

والشاهد في قول عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي المثال والنموذج للعالمين في كلامه وصمته. فلم يكن يتكلم إلا بما يفيد، كلاما بينا فصلا يحفظه من جلس إليه، ويعيده ثلاثا حتى يُعقل عنه. بل كان صلى الله عليه وسلم طويل الصمت لايتكلم أبدا في غير حاجة، أو في غير نفع، ويتكلم بجوامع الكلم وفيما يعنيه فقط.

فهذا الإمام الشافعي رحمة الله عليه يبرر سكوته ويجعل من الصمت تجارة رابحة تفوق وتعلو كل تجارة فيقول:

1.    وجدت سكــوتي متجرا فلزمــته     إذا لم أجد ربحا فلست بخاسر

2.    وما الصمت إلا في الرجال متاجر     وتاجره يعلو على كل تاجــر

إذا كان الصمت والسكوت بهذا المعنى؛ فإنه سيكون بخلافه إن وافقتَ هوى الصمت حين يتوجب عليك الكلام، أو توافق هوى اللسان حين يتوجب عليك الصمت. مما يعني أنه يُفترض بك – حينا – التكلم حال الرغبة في السكوت، ويفترض بك أيضا السكوت حال الرغبة في الكلام. فقط من باب الأثر القائل" مخالفة النفس طاعة". وبلغة أخرى، أقول تكلم حين تشتهي نفسك السكوت، واسكت حين تشتهي نفسك الكلام، كل ذلك مخافة أن يصيبك نوع من الغرور أو الرياء أو العُجب بما ستقول، أو الإزدراء والإستهزاء والسخرية مما يُقال، ""وكبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"".

ومن حكم أبي العتاهية في السياق ذاته ما قوله:

1- الصمت أجمل بالفتى    من منطق في غير حينه

2- لاخير في حشو الكلا    م إذا اهتديت إلى عيونه

3- كل امرئ في نفسه     أعلى وأشرف من قرينه

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دعا إلى هذا المعنى وغيره في حديث متفق عليه يقول فيه: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" رواه البخاري ومسلم. فقد علق الشافعي رحمة الله عليه على معنى الحديث قائلا: إنه إذا أراد (المرء) أن يتكلم فليفكر... فإن ظهر أن لا ضرر عليه تكلم، وإن ظهر أن فيه ضرر أو شك أمسك عنه. والأعظم أن يكون الصمت في وقته من دلائل الإيمان. ف" من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه".

وقد سئل بعض الصامتين: "" لم لزمت السكوت ؟ قال : لأني لم أندم على السكوت قط وقد ندمت على الكلام مرارا.

إن الدعوة إلى الصمت تأتي من باب الإحتراز وأخذ الحذر حتى لايوقع بك لسانك في المحظور، المحظور من الكلام و المحرم و البذيء... إلا أن تجاهد بكلمة حق، فهو الأوْلَى.

فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" العافية في عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله عز وجل"". نعم إلا في ذكر الله، وفي قول الحق. ومن سكت عن قول الحق فهو شيطان أخرس، و" من فقه الرجل قلة كلامه فيما لايعنيه"". فجرح اللسان كجرح اليد.

ومما قاله الناظم في هذا الشأن مشيدا بفلاح الصامت:

1- قد أفلح الساكت الصموت        كلامه قد يعد قوت

2- ما كل نطق له جواب          جواب ما يكره السكوت

3- واعجــبا لامرئ ظلوم          مستـــيقن أنه يموت

وإذا كان الصمت بالمعنى الذي أدرجته آنفا؛ فإن نعمته لاتنتهي بالتعود على قول الخير، وعدم الندم ... إنما نعمته قد تصل إلى حد أن تنال رضى الرحمان فيكون سببا يُدخلك إلى جنانه، أو كلاما تقوله يخرجك من منها فيهوي بك في نار جهنم والعياذ بالله. فقد روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار،  قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لاتشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت. ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جُنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون. ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سَنامه ؟ قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه وقال كُف عليك هذا قلت يانبي الله !! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال تكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟؟ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

الشاهد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: كف عليك هذا. إذ إطلاق العنان للسان سيمشي – لامحالة - بين الناس بالغيبة والنميمة وشهادة الزور وربما يقع في أعراضهم ويسترسل في المعاصي وإيذاء الآخرين في الوقت الذي يُفترض فيه الحث على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي كل ما يعود على الناس بالنفع والخير" وقولوا للناس حسنا".

وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه أنشد قائلا:

1- يموت الفتى من عثرة من لسانه    وليس يموت المرء من عثرة الرجل

2- فعـثرته من فِيه ترمــي برأسه     وعثـرته بالرجل تبرى عــلى مهل

وفي الختام أزف إلي وإليك هذه النصيحة من لسان ابن حِبَّان ناصحا: "يا ابن آدم انصف لسانك من أذنيك واعلم إنما جعل لك لسان وأذنان لتسمع أكثر مما تقول". فمن كثُر كلامه كثُر لغطه.

 

 
موقع التربية والثقافة
 
انصر نبيك
 
موقع الشيخ محمد حسان
 
موقع أساتذة اللغة العربية المبرزين
 

اضغط هنا

 
عدد زوار الموقع: 15474 visiteurs
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement