استقالة تربوية
كتبها : حمادي الموقــت
من المعلوم أن التربية فعل قيمة خضعت وتخضع لقانون الفطرة. والفطرة ما جُبل عليه الإنسان مذ ولادته، بل وهو لازال في بطن أمه. معنى هذا أن التربية تبدأ في وقت مبكر جدا من حياة المرء. وعليه فهو يكون قابلا لكل وافد عليه ممهما كانت طبيعته شرط أن يوافق مرحلته العمرية.
والفطرة في المفهوم الشرعي هي الإسلام، والإسلام سلوك ومعاملات، أخلاق وعبادات. وعلى هذا الحد، فالأبوان هما أول ممون قيمي وأخلاقي ومعرفي وسلوكي لأطفالهم . فإذا انسلخا واستقالا من هذه المهمة بات الطفل في عناية الشارع والمدرسة التي فقدت من جهتها هيبتها ووظيفتها التربوية وأمست عملة مزيفة غير قابلة التداول، والتلفزة (التلافة) والفضائيات التي تنثر وتنشر سموما مغطاة بشعارات القرب والعولمة والتفتح والحضارة. زد على هذا الصحبة الفاسدة والشبكة العنكبوتية وكل التكنلوجيات المتطورة . خاصة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا مذ ما يربو عن 14 قرنا أن :""كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"". فإنِ استقال الأب واستقالت الأم عن مهمة التربية فلامحالة أن المولود سينحرف عن سلوكيات الفطرة (الإسلام) وهذا أقل ما يلحقه. أما الجلل فأن يتصف بصفات اليهود أو النصارى أو المجوس. لم لا وقد غزت تلك الفضائيات البيوت الإسلامية وأصبحت الموجه والمرشد حتى في برامجها وأفلامها الكارتونية التي لايدرك الأبوان خطرها على أبنائهما وهي التي تبدو ظاهريا أنيقة مضحكة ومسلية، لكنها في الباطن تغرس سموم الفسق والجهل والإنحراف والعنف في نفوس مرتديها وخاصة هؤلاء الأطفال .
إن التربية دَيْن. فمتى ربيت ابنك وبرَرْته في صغره وقمت على شؤونه عاملك بمثل ما تعامله به، فكان نعم الولد الصالح فيبَرك في كبره. ومتى أهملت تربيته وتكوينه تكون قد عققته في صغره فلا محالة أنه سيعقك في كبره، والجزاء من جنس العمل. فكيف لأم تشرب السجائر أو لأب يفعل ذلك أمام أبنائه، وهو لايرغب في أن يحذون حذوه، في الوقت الذي يعد هو بالنسبة لهم القدوة والمثال. والإبن على ما عودته. إن شب على شيء شاب عليه، وإن شاب على شيء مات عليه، وإن مات على شيء حُشر عليه.
فإذا كان الجنين يتأدى مما تتأدى منه الأم، ويفرح من فرحها ويحزن من حزنها، فيقبل حبها ويبادلها الحب ذاته إن كانت تحبه وتعطف عليه، ويرفضها ويرفض شر ما تقوم به ، فإنها تحس بذلك وتلحظه في حركاته العنيفة التي تؤلمها في غالب الأحيان.
فإن كان هذا "جنين " في بطن أمه، فماذا لو خرج إلى دنيا الزوال والفساد. من طبيعة الحال كان العقوق متبادل. و الأولى كانا لهما الوقت الكافي لتشكيل شخصية طفلهما وفق "نموذج فكري- إسلامي" يرسمان خارطته قبل ولادته.
وفي اعتقادي ليس غريبا أن نلفي أسرا ومجتمعات تعاني هذا الطارئ الذي استحكم الإبن وعقل والأب بسبب العدول عن المنهج الإسلامي في التربية والخطاب التربوي. إذ عوضته إيديولوجيات وترهات وخزعبلات أفتتها قيم العولمة الفاسدة والتحضر المزعوم والإنفتاح الواهم.
ألا ترى معي أن هذا ما تصبو إليه العولمة التي تعمل جاهدة على تكسير أي حاجز أخلاقي بين المربي والمربَّى والمعلم والمتعلم، فيكون الحاصل هدرا في التربية وهدرا في التعليم وهدرا في السلوك وهدرا في سنن التعامل مع الآخر حتى ولو كان هذا الآخر الأب والأم.
وإذا ما سلمنا بهذا الحاصل ومن منظور تربوي تعليمي يمكن تسمية هذه العولمة بـ " العولمة التربوية" و" العولمة التعليمية" على اعتبار أنني أنظر إليها كالتالي: أنها "" دمج وصهر ثقافات العالم بسلوكياته وعاداته الصالحة منها والطالحة وفق ما يقتضيه قانون الغالب (المربِّي – المعلم) على المغلوب (المربَّى – المتعلم)"".وتعجبني بعض الأوصاف التي تقول عنها: إنها" خدعة إديولوجية " أو إنها " استعمار بثوب جديد". وهذا صحيح إلى حد بعيد جدا.
وإذا كان المرغوب من المؤسسات التربوية - لا الأسرة منها ولا المدرسة – هو إكساب الفرد ضوابطه التربوية والتكوينية، وصقل مهاراته ومعارفه التعليمية -التعلمية، قصد تأهيله لتحقيق الإندماج الفعلي والإيجابي المنتج داخل النسيج المجتمعي؛ فإن هذا المرغوب – لسوء حظنا- فشل فشلا ذريعا بسب شعارات زائفة هي أكبر من أن نتبناها أو نرددها " ورب كلمة تقول لصاحبها دعني" فما بالك أن نزعم أننا مؤهلون لتطبيقها على أرض يملؤها الخواء، ويغيب فيها الحس والهم التربويين – التعليميين. كيف ببلد ينادي بالتغيير وإصلاح المنظومة التربوية الوطنية وتحقيق الجودة وهو بعيد عنها كل البعد.. بعيد عنها بضعف الإمكانات، بعيد عنها بغياب المراقبة، بعيد عنها بالصدق في التغيير، بعيد عنها بسوء التدبير والتسيير ، بعيد عنها بغياب المحفزات لا المادية و لا المعنوية ولا العملية ولا العلمية لكل طرف من طرفي العملية التعليمية-التعلمية (المعلم والمتعلم) . هذا دون نكران أو جحود لحداثة وجدة هذه الطرق اللقانية في التدريس التي وصلنا بها حد التخمة كما يصفها أحد المهتمين.
تلكم مناهج تعليمية جاهزة خضعت في مهد نشوئها لسنوات عديدة من البحث والدراسة لمعرفة مدى نجاعتها ونجاحها في تطوير السير التربوي والتعليمي في مثل بلد إسمه كندا وآخر إسمه فرنسا. الأمر الذي عز على بلدنا في أن لا يساير تطور العصر وما تقتضيه قوانين العولمة كما سلف الذكر .
ومما زاد الطين بلة أن نمسي على هذا الوضع التعليمي المشين، ونصبح نتحدث عن تعميم البرامج المعلوماتية في المؤسسات التعليمية والإستفادة من التكنلوجيات المتطورة في تحسين وتطوير العملية التعليمية التربوية.... هذا والله ذكرني بالمثل الشائع في الأوساط الشعبية المغربية الذي يقول: " أش خاصك العريان ؛ خاصني خاتم أمولاي" . كيف لي أن أتحدث عن التكنلوجيا ومحو الأمية الرقمية !!! ومؤسساتنا التعليمية انسحب من تحتها بساط الوقار والهيبة والقيمة لحساب الفوضى والتسيب والهدر الأخلاقي ...، كيف لي أن أتحدث عن المعلوميات وبرنامج " Gènes "" والمدرسة المغربية تعوم في يم رَهْوٍ يغشاه موج المستوى المتدني من فوقه موج الأفق المسدود من بعده غياب قرار صادق من السلطات الوصية في تحسين جودة التعليم، وتوفير جل الإمكانات التي يمكن أن تساهم في ذلك.
والقارئ لهذا الكلام؛ سيستنتج لامحالة أني ضد تحيين البرامج التعليمية وضد إصلاح المنظومة التربوية ... وهذا غير صحيح البتة. ذلك أني أنادي فقط بالمصداقية في التعامل،وبحسن نية في تغيير الوضع المتردي في المدرسة المغربية. ما أنادي به فقط هو أن نرتدي من اللباس ما يوافقنا دون إسبال يُخرجنا من جنسنا، ودون تقزيم أو تقصير يبقينا عراة نستكسي اللباس على قارعة التخلف. وإلا لما كان المنهاج الجديد ناجح في مهد نشوئه وفاشل عندنا. والدليل خريجوا المدرسة المغربية الحالية الذين لم يعودوا أطرا فاعلين – إلا من رحم الله- بل أمسوا إما معطلين أو متسولين أو عاجزين ... يغيب عن بعضهم الحياء؛ وعن بعضهم الآخر شيء إسمه التربية، وعن البعض الثالث التفريق بين الفعل والمفعول على مستوى الباكلوريا مثلا.
"" وها نحن إذن – كما يقول ذ. نور الدين بيلا وهو أحد المهتمين بالشأن التعليمي في المغرب مؤكدا ما قلته - أمام مدرسة تحولت إلى قاعة انتظار يملأ بها التلميذ الفراغ ويتربص بأول فرصة تمكنه من الظفر بشغل أو هجرة نحو الخارج تجعله ينجو من شبح البطالة ، فتفشت مستويات الهدر بكل أشكاله :هدر تربوي ناتج عن غياب الاهتمام بالمواد المدرسة وبالتالي تدني المستوى الدراسي،وهدر مادي جعل المدرسة تستنفذ أمولا طائلة وتحقق نتائج مخيبة ،وهدر أخلاقي يشجع على الانحراف أمام فقدان الثقة في جدوى العملية التربوية، فباتت المدرسة عقيمة تغيب فيها الشروط المحفزة للرغبة في التعلم والإقبال عليه"".
لم يكن كل ما قلت سوى نتيجة لاستقالة تربوية بصيغة الجمع: من جهة الأبوة أولا، ثم من جهة المدرسة ثانيا، وأخيرا من جهة المسؤولين صناع القرار ... لحساب الشارع ولحساب الفضائيات ولحساب شبح العولمة، ممن كان يُفترض فيهم ويُرجى منهم حمل الرسالة وأداؤها على الوجه الأكمل،لكن للأسف صدق فينا وفيهم قول الرب العلي:"" إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا"" . الأحزاب -82.
فهل ما نعانيه وما نعاينه يدفعنا للحنين إلى زمن الحبر والقرطاس والقلم؟؟؟
|