الكتاب والقراءة:
توأم بجسد واحد
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:"ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، توتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار" إبراهيم الآيات 26-27-28.
ما من شك في أن الكتابة فن وموهبة، وقراءة ما يُكتب علم ودراية ومعرفة. فالكلمة الطيبة كما شبهها الله تعالى كالشجرة الطيبة، لكن طيبها وطراوتها لن تدركها القلوب إلا بتذوقها، والتذوق معيار التمييز والتصنيف. فالتذوق في شأن العلاقة أعلاه هو القراءة. وبالقراءة تستطيع أن تميز ذاتك، تستطيع أن تميز العالم. فبانعدامها تنعدم الذات، ويفنى العالم. فتصبح الكلمة-الكتاب كالشجرة الخبيثة التي اجتثت فوق الرفوف هنا وهناك، تلتحف غبار الزمن.
الكتاب حياة والقراءة ماؤها؛
الكتاب والقراءة: حكاية حب بين توأم في جسد واحد. توأم الجسد والروح، فلا مكان للجسد بدون روح، فبخروج الروح يسقط الجسد. وبانعدام القراءة تفنى الكتب.
الكتاب وجود، ووجود الكتاب القراءة، فلا خير في أمة لاتقرأ، ولاحاجة لنا في كتاب لانقرؤه، رُغم أن القرآن الكريم أقر أول ما أقر؛ الأمرُ بالقراءة، حين قال الله تعالى مخاطبا نبيه الأمي الأمين، الذي علم الناس أجمعين قال: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم". سورة العلق. فإن لم تقرأ كتابات الآخرين، ولم ترقك؛ فاقرأ كتاب الله وتعرف منه كيف خُلقت.
ما جدوى أن نكتب إذا، وما جدوى أن ندون ونملأ الرفوف بالأوراق والصحائف والمسودات، ونحن نعلم مسبقا أنها ستكون جحرا ومسكنا للعناكب والحشرات، وقوتا للفئران والدود والحيات.
أيها القراء: بالقراءة نحيا، وبالقراءة نصنع التاريخ.
الكتاب أنيس في الوحدة، والقراءة رفيق في الندوة؛ وفي هذا يقول أحمد بوزفور:" الكتاب حقل معرفةٍ، يُنتج كلما سرت فيه. حقل نوّار وسنابل وفواكه، يُمتع ويغدي ويُرهف ويسمو بالروح، فوق الوجود اليومي الخشن والعابر. لكن الكتاب بدون قراءة حقل بور متوحش، لاتسكنه إلا الصخور والأشواك والحشرات". فتجد غيرته هاته وقد خلقت في نفسه دعوة إلى اجتتات الجهل ببناء مؤسسات ودور للقراءة، وأصدقاء للكتاب، وتشجيع الأسر على إنشاء مكتبات داخل البيوت، وتعويد الأطفال على القراءة، في الحافلات والقطارات وغرف الإنتظار.... لايهم أين !! المهم أن نقرأ...
أما صلاح الدين بوجاه في رواية "سبع صبايا" يصور لنا حال شخصية من شخصياتها وهي تقف أمام مقاصير الكتب عاجزة عن القراءة قائلا عنها: " حين يدخل (زرنيخ) مقاصير الكتب الملأى بمعارف الأولين... تلك معرفة لا يتقنها ... يمضي الساعات الطويلة جالسا أمام الكتب الموصدة ... يرجو أن تنزل مياه السماء كي تمحو حروفها؟ ما جدوى الأوراق حين لايفهمها؟" ص 541. يقارب أحمد فرشوخ هذا المقطع الروائي قائلا:" ففي كل الحالات ثمة قصد للكلام ورغبة في التعبير عن معنى، فالسرد إذن مستجيب وواصف نشيط، يؤاخي بين عناصر الطبيعة وأحاسيس النفس وعلامة الكتابة؛ ومن ثم نجد الكتب جنب القمح والشعير والحمص والذرة، ونلفي الرغبة في محو المطر لحروف الكتب الموصدة، كما نستشعر دلالة"الأوراق" على الكتاب والشجرة معا، وإيحاء "الفصول" بأطوار الزمن الطبيعي وأقسام الكتاب في آن واحد": " وتتسلل المياه تحت الجسر الصغير فتبتل الورق، وتغيب الفصول البهية..."ص 42 من الرواية ذاتها.
فبغياب المياه تغيب الفصول، وبغياب الفصول تغيب الأوراق، وبغياب الأوراق تغيب الكتابة، وبغياب الكتابة تغيب القراءة، وبغياب القراءة يغيب العلم، وبغياب العلم تفنى الحياة ويغيب العالم. تلكم هي سلسلة الوجود تقتات على كلمة، مسقية بمياه الرغبة، ومغطاة بثوب الإخلاص.
ومن ثم، لايحق للحياة أن تنطق، ولا للطبيعة أن تتجمل، إلا لمن يحسن القراءة، ويدون كلمته ببصمة المداد أو لحن الصوت.
وإدراجنا لهذا المقطع لم يكن إلا لإلقاء الضوء ولإثارة الإنتباه على الوضع المتوتر الذي تعيشه الأمة في علاقتها بالكتاب والقراءة. والرواية ليست الجنس الأدبي الوحيد، أو الأداة الوحيدة لكشف خطر ارتداد القراءة، أو موت الكتاب. بل الكلمة الحالمةُ القابعةُ بين سطور الدواوين، لم تنس واجب التنبيه أو الدعوة لاحتضان الكتاب والكلمات. يقول الشاعر عبد المعطي حجازي في قصيدته "لمن تغني؟" وهو يدعو الإنسان الريفي إلى احتضان كلمته وفهمها إن أراد استرداد حريته وحقوقه:
يا أيها الإنسان في الريف البعيد
يا من يُصم السمع عن كلماتنا
أدعوك أن تمشي على كلماتنا بالعين، لو صادفتها
كيلا تموت على الورق.
أسقط عليها قطرتين من العرق،
كيلا تموت
فالصوت إن لم يلق أذنا، ضاع في صمت الأفقْ
ومشى على آثاره صوت الغراب.
وأنت أيضا، أيها الإنسان المختبئ وراء شهوات الجهل، ألا تريد أن تصنع حضارتك؟ أن تدون تاريخك؟ قل كلمتك ، إقرأ حروفك، احتضن عِلمك !!!
يقول أحد الأدباء الغربيين واسمه مارك ألان واكنين عن العلاقة التي يمكن أن تجمع الكتاب بقارئه:" ماذا يحدث عندما يكون لكتاب ما موعد مع قارئه؟ إنه بدون شك بداية لقصة حب جميلة، فكل واحد سيَهبُ للآخر أعمق وأنفس ما عنده، كل واحد سيَتلَقى من الآخر هدية عجيبة: الحب؟؟؟".
|