العربية في زمن الحاسوب

العربية في زمن الحاسوب

بقلم: ذ. حمادي الموقت

لعل الحديث عن اللغة العربية ومستقبلها ضمن صيرورات المجتمع اللغوي - في زمن الرقمنة والهيمنة التكنلوجية- موضوع تتصارع حولها النظم والأفكار على مرأى من بدايتها، وتتقادم فيه الأشياء وهي في أوج جدتها، إنه موضوع في زمن تتآلف فيه الأشياء مع أضدادها.

فإذا كانت العربية بثروتها الواسعة وظواهرها المتباينة، قد نادت بقوتها وكينونتها وكفاءتها في تبني جميع أنماط العلوم المعرفية...فلعله طرح زكاه المستشرق الألماني بروكلمن بكلامه حين قال: "تعد اللغة العربية من أرقى اللغات السامية تطورا من حيث تركيباتُ الجمل، ودقة التعبير. أما المفردات فهي فيها غنية غنى يسترعي الإنتباه، ولابد فهي نهر تصب فيه الجداول من شتى القبائل".

إنها حقيقة؛ حقيقة سجلها التاريخ تقول: كانت إحدى لغتين في العالم القديم، تُكتَب بهما الفلسفة والعلوم فيما بين القرنين 2 و16، حينما كانت العربية في الشرق واللاتينية في الغرب، حتى اعتُبرت لغة عالمية، فلعل هذا ممن يُبطل الدعاوى والشعارات القائلة:  إنها لغة أدبية لاتصلح لأن تكون لغة علمية[1]. وإن صَدَق هذا، فكيف سيكون حالها حين يعترض سبيلها شبح الإقتصاد والتنمية المجتمعية؟ ليصبح وجودها رهين بما تستطيع أن تقدمه للسوق المعلوماتية وللمنظومة التكنلوجية بشكل عام؟ هل سيكون في مقدورنا آنذاك أن نصنع من أجل تنمويتها عربيةً قطاعية؟ كعربية تكنلوجيا الزراعة مثلا، وعربية تكنلوجيا الإعلام، وعربية تكنلوجيا الطب، وعربية تكنلوجيا الصناعة، وعربية تكنلوجيا النقل والمواصلات، وعربية تكنلوجيا السياسة، وعربية تكنلوجيا القيم والمعتقدات...؟

لاشك أن من يُطالب بضرورة اعتبار اللغة الفرنسية مرجعا وأداة حاسمة تُصلح بها هذه اللغة الوطنية[2]؛ ليس إلا إرضاءا لأصحاب ثقافة العولمة، واستصغارا لثقافة السلف، بعد عجز هؤلاء عن مد أوصالها بنموذج أكفى وفعال ينهض بها ويدمجها في عالم الرقمنة التنموية والإقتصادية. هل يكفي هذا كمنطلق حقيقي لزعزعة الروح العربية وتأكيد حاجاتنا الماسة إلى تمحيص علاقتنا بذواتنا أولا، ثم بثقافتنا وثقافة تكنلوجيا المعلومات ثانيا؟

ربما السبيل إلى ذلك؛ ليس سوى ضرورة التنسيق الدقيق بين سياساتنا الثقافية وسياساتنا العلمية والتكنلوجية. والخطير في الأمر، أن نسمع يوما ما؛ من يتولى نيابة عنا مهمة معالجة اللغة العربية آليا، وتطوير نظم الترجمة الآلية إليها، بعد ضمها –مثلا- إلى العبرية تحت سقف إدارة واحدة[3].  وعندئذ ستحل بنا كارثة "نهاية الذات والهوية". فماذا سيكون رد فعلنا لو تَرجَمت هذا التخوف عدد من الجامعات والمعاهد الدولية[4] حين تخصص لها قسما خاصا بها، وتدرجها ضمن طابورات الدراسة والتدريس؟.

فبقدر ماهو عصر جديد، بقدر ماهو عصر صناعة الثقافة وإعادة بناء المجتمعات – بل وإعادة بناء فكر مجتمعي سليم-، لخلق مثقف جديد. لكن هل عربيتنا بهذا الحال قادرة على رفع التحدي؟ أم أن الأمر متعلق وراجع إلى عجز وخمول أهلها؟

إن حقيقة ما يجب أن يقال:" إنها لغة غير مقصرة، ولن تكون كذلك إلا بمتكلميها، على اعتبارهم مصدر التزويد فيها، فلا يمكن أن تكون لغة علم وفكر ومعرفة؛ إذا كان المجتمع الذي يتكلمها عاطلا خاملا وبعيدا عن تعاطي العلم والفكر والمعرفة، وبالتالي، فقيمتها لن تكون بداخلها أو في ذاتها بل في ما يضعه العرب (مستعملوها) فيها، ولايكون هذا إلا بواسطة ممارسة اللغة واستعمالها والتداول بها ووضعها على المحك"[5].

وما محكها إن لم تسهر مؤسسات ومعاهد[6]  فعلية على بلورتها كيانا عربيا للتنميةِ والإقتصاد؟.ومما يقترح على وجه الإستعجال -في هذا الباب- مايلي:

-       أولا: الرغبة الأكيدة أفرادا وجماعات، حكومة ومؤسسات في جعل عربيتنا عربية العلم بامتياز؛

-       ثانيا:  توفير الإمكانات المادية والمعنوية؛

-       ثالثا: خلق نظم للترجمة الآلية؛

-       رابعا: خلق برامج و أوراش تعريبية؛ (و البدء بتعريب مصطلحات الحاسوب، وأنظمة البرمجة على اعتبارها المنفذ الحقيقي والمفتاح المنهجي الأكيد لكل ذلك)؛

-       خامسا: مساهمة الإعلام ودوره الكبير في تحديث عربيةِ العلم ونشرها في أحضان العولمة المعلوماتية؛ أوالمنظومة اللغوية بصفة عامة.

أين نحن إذن من ""سنغافورة، التي جعلت من تكنلوجيا المعلومات أحد المصادر الأساس لدخلها القومي، وتنميتها الإجتماعية. أين نحن من الهند التي نجحت خلال فترة لا تزيد عن عشر سنوات  في أن تصبح ثالثة   أو رابعة دول العالم في صناعة البرمجيات، بل ويساهم علماؤها الآن في وضع الأسس النظرية لتكنلوجيا "البيوسيلكون" لدمج العناصر البيولوجية مع شرائح السيلكون الإلكترونية، والتي يتوقع لها الكثيرون أن تحدث ثورة عارمة في مجال صناعة الحواسيب الإلكترونية""[7]، والأمثلة على ذلك كثيرة.

صحيح أن بوادر العمل ما إن تبدأ في الإنبثاق، حتى تجد من يجهض نبضها أول الطريق. ومع ذلك فلا بد من التنويه بها وتشجيعها بالرغم من محدوديتها تلك، لا المادية ولا المعنوية. وبالرغم كذلك من نزعتها الفردية والشخصية في غالب الأحيان. أو على الأقل في حدود فرقِ عملٍ صغيرة كما هو الحال بالنسبة لشركة صخر والشركة الهندسية لتطوير نظم المعلومات. وما منتوجا المحلل الصرفي والمشكل الآلي إلا نموذجان لإرادة هذه الفرق باعتبارهما برهانا يثبت كفاءتين اثنتين: واحدة مرتبطة بذات اللغة وما يمكن من خلالها أن تطور به نظم البرمجة الحاسوبية، والأخرى متعلقة بالمنتج العربي و مدى خبرته في تطوير البرامج نفسها، خاصة فيما يهم اللغة العربية، بيت القصيد عندنا، لالشيء؛ إلا لأننا نريد منها أن تكون جسرا تواصليا – على غرار باقي اللغات الطبيعية- للمرور عبرها نحو عوالم أخرى: أشياءا كانت أم أفكارا أم كائنات أم خائليات[8] .

حقيقة، لم نعد نريد – بهروبنا عن عالم اللغة العربية- أن نخترع المدنية، ولم نعد نريد أن نقوم بالمساهمة في الصناعة ولا في الثقافة، حتى تقاعسنا عن ابتكار [ولو] تسميات لما يخترعه غيرنا وذلك من باب أضعف الإيمان والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرونƒالآية 78 من سورة النحل.



[1] - سامح كريم ، (لغتنا العربية : هل تعاني من الغربة؟) مجلة العربي ، العدد 541 ، شوال 1424هـ/ دجنبر2003م، ص 88.

[2] - عبد القادر الفاسي الفهري ، اللسانيات واللغة العربية ، دار توبقال للنشر ، الطبعة الأولى ، 1985 ، ص 181.

[3] - نبيل علي،  2001،ص 55.

[4] - يكفينا مثالا واحدا فقط عما يحدث في الجامعات  من تخصيص أموال ضخمة وإمكانات بشرية لدراسة ظاهرة " الحقيقة والمجاز في اللغة العربية". هذا بغض الطرف – بطبيعة الحال- عما تطبخه لها  إسرائيل وعملاؤها.

[5] - بسام بركة ، (اللغة العربية : القيمة والهوية) مجلة العربي، العدد 528 نوفمبر 2002 ، ص 86.

[6] -  على سبيل المثال: معهد التعريب، وأكاديمية محمد السادس للغة العربية بالرباط، وكلية اللغة العربية بمراكش... وغيرها من المؤسسات التي يفترض فيها، وينتظر منها أن تخلق برامج و أوراش عملية  لصد هجوم  الإندحار.

[7] - نبيل علي ، 2001، ص 74.

[8] - العوالم الإفتراضية، أو (المتخيَّلة).

موقع التربية والثقافة
 
انصر نبيك
 
موقع الشيخ محمد حسان
 
موقع أساتذة اللغة العربية المبرزين
 

اضغط هنا

 
عدد زوار الموقع: 15095 visiteurs
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement