وأما علم اللغة وذكر سبب وروده ووجوده فاعلم أنه "" بيان الموضوعات اللغوية، وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب واستُنبطت القوانين لحفظها كما قُلناه ، ثم استمر الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم؛ حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستُعمِل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنة المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين خشية الدروس وما ينشا عنه من الجهل بالقرآن والحديث"". ص548.
ومن ثم كان علم اللغة علم آلة استوجب جمع اللفظ وحفظ المصطلح العربي من الهجنة . فكان كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي أول الكتب الحافظة التي حصر فيها "" مركبات حروف المعجم كلَّها من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي"" ص548. وجاء أبو بكر الزبيدي وكتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصره مع المحافظة على الإستيعاب وحذف منه المهمل كله وكثيرا من شواهد المستعمل ولخصه للحفظ أحسن تلخيص.
وألف الجوهري كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف المعجم فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم وحصر اللغة اقتداء بحصر الخليل.
ثم في هذا أيضا ابن سيدا الأندلسي كتاب المحكم على نحو ترتيب كتاب العين إلا أنه زاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها فجاء من أحسن الدواوين كما يصف ذلك العلامة. إلى أن جاء محمد بن أبي الحسين فقلب ترتيبه إلى ترتيب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها.
تلكم هي أصول الكتب في هذا العلم فيما علمه العلامة، إلا أن هناك مختصرات أخرى اختصت بصنف من صنوف الكلم في هذا العلم وقد ذكر منها العلامة كتاب الزمخشري في المجاز بين فيه كل ما تَجوّزت به العرب من الألفاظ وفيما تجوزت به من المدلولات. وكتاب فقه اللغة للتعالبي الذي أرسى فيه هذه التجاوزات ، والألفاظ لابن السكيت حيث تكفل بحصر الألفاظ المشتركة وإن لم تبلغ إلى النهاية كما يعلق على ذلك العلامة.
""واعلم أن اللغات ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يُطبّق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع وهذا هو معنى البلاغة"" ص554.
معنى ذلك أن الغاية ليست في المعنى وإنما في اللفظ الذي يحوي المعنى. إذ الإعتناء باختيار اللفظ والكلمة أو التركيب على وجه الخصوص هو ما يؤدي المرغوب. والملكة لاتحصل بالمعنى أو المعاني بل بتكرار الأفعال لأن الفعل –كما يقول العلامة- يقع أولا وتعود منه اللذة للذاتِ صفةً، ثم تتكرر فتكون حالا ومعنى الحال صفةٌ غير راسخةٍ، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.
علم البيان
وهذا العلم ""حادث في الملة – كما يقول العلامة – بعد علم العربية واللغة وهو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ وما تُفيده ويُقصد بها الدلالة عليه من المعاني وذلك أن الأمور التي يَقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي إما تصور مفردات تُسند ويُسند إليها ويُفضي بعضها إلى بعض والدالة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف، وإما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة ويدل عليها بتغير الحركات من الإعراب وأبنية الكلمات وهذه كلها هي صناعة النحو"" ص550.
أما ما يكتنف الوقائع بالغموض واللبس"" فأحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة، وإذا حصَلَت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع ولكل مقام عندهم مقال يُختص به بعد كمال الإعراب والإبانة. ألا ترى أن قولهم:" زيد جاءني " مغاير لقولهم:" جاءني زيد" من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم. فمن قال: جاءني زيد أفاد اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه . ومن قال:" زيد جاءني" أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيء المسند. وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم : "زيد قائم" و "إن زيدا قائم" و "إن زيدا لقائم" فكلها متغايرة في الدلالة وإن استوت من طريق الإعراب. فإن الأول العري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن والثاني المؤكد بـ"إن" يفيد المتردد والثالث يُفيد المنكر"" ص 551.
والجملة الإسنادية تكون خبرية أي التي يكون لها خارج تطابقه أو لا. وإنشائية أي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه.
وقد يُدل بالفظ ولايراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد، فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنما تريد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد وتسمى هذه استعارة...
فاشتمل هذا العلم المسمى بعلم البيان وبحسب الأحوال والهيئات والمقامات التي اقتربت من بعضها آن اشتمل على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول ويسمى علم البلاغة ويُبحث فيه عن الأحوال والهيئات التي تطابق بالفظ جميع مقتضيات الحال.
الصنف الثاني ويسمى علم البيان ويُبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الإستعارة والكناية والمجاز والتشبيه...
والصنف الثالث ويسمى بعلم البديع ويُبحث فيه عن الزينة التي تحصل للكلام وتُحسنه إما بسجع أو تورية أو جناس أو طباق .
ومن الذين كتبوا في هذا العلم ذكر العلامة: جعفر بن يحي وقدامة والجاحظ والزمخشري وابن رشيق والسكاكي بكتابه المفتاح في النحو والتصريف وابن مالك في كتاب المصباح وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح.
علم الأدب
""إن الغاية من هذا العلم – يقول العلامة -عند أهل اللسان هو الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم"" ص553. ولأن الأثر يقول: إن الشعر ديوان العرب. فهذا يعني قصد العلامة حيث شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل لغة ونحو، والناظر يستقري منه في الغالب معظم قوانين العربية فضلا عن ذكر أيام العرب وأنسابهم وأخبارهم وطريقة عيشهم و سلوكاتهم. إذ لا تحصل الملكة من حفظه- يقول العلامة – إلا بعد فهمه . لذلك إن أرادوا حد الأدب حدوه بالشعر كفن منظوم فقالوا : ""هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف"" ص553.
وسمع العلامة من شيوخه في مجالس العلم والتعليم أن أصول هذا الفن وأركانه – والقصد علم الأدب-أربعة دواوين وهي : أدب الكتاب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربعة يضيف العلامة فتبع لها وفروع عنها .
ولما كان الغناء من أجزاء هذا الفن وتلحينا للشعر حرص خواص الدولة العباسية على أخذه بقصد تحصيل أساليب الشعر وفنونه فلم يكن انتحاله – كما يقول العلامة- قادحا في العدالة والمروءة. إذ ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه الشهير : في الأغاني الذي جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم وجعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد.