فواعل التواصل الآلي وأدوارها

فواعل التواصل الآلي وأدوارها

بقلم: ذ. حمادي الموقت

يقتضي أي تواصل حاصل بين العناصر البشرية جملة من الفواعل والأركان التي لايتم التواصل و لا يتحقق إلا بها. لكن إذا حل محل أحد الأطراف التواصلية عنصر آلي أو هي الآلة ذاتها؛ فالأمر يختلف بعض الشيء، ليس في طبيعة الفواعل ، وإنما في وظيفتها. وإن أردت تعمقا في الأمر. تتبع معي هذه الخطوات:

1-   المرسِل EMETTEUR :

يمثل المرسل أول فاعل أو طرف في العملية التواصلية، وحيث يمكن له أن يكون ذاتا إنسانية أو آلة؛ فهو يُشكل مصدر المعلومة أو الرسالة المعرفية اللغوية وغير اللغوية. فهي في النهاية معارفٌ أساسُ فهمها مكنز مفهوماتي أو سنن لغوي قد يشترك فيه -وقد لايكون كذلك- كل من المرسل والمرسل إليه. بمعنى آخر انه يمتلك اللحظة التي يبث فيها شفرته، ويرسلها في اتجاهين اثنين. واحد صوب الحاسوب مباشرة، والثاني من الحاسوب إلى مخاطبه. الأمر الذي يفرض عليه أن يكون متمكنا من طرق استخدام الحاسوب ومن حسن استغلاله، وممتلكا لكل تقنيات وأدوات العمل والوسائط التي تساعده على تبليغ رسالته، ومنها:

- الكفاءة والخبرة اللازمين في المجال المعلوماتي؛

- رصيد معرفي يؤهله لكل نقاش محتمل(على اعتبار أن ليس هناك موضوع محدد ومعين في مقرر التدريس)؛

- حاسوب مرتبط بالشبكة العنكبوتية؛

-  طابعة؛

- ناسوخ ضوئي؛

- مكبرات للصوت؛

- وأنظمة معلوماتية أساس (للصيانة أوالإصلاح أو التحميل أو التمثيل أو التعليم ...).

ومما يستوجب على المرسل التركيز عليه عند توجيه الخطاب للمرسل إليه:

- التركيز.. إثارة التفكير المستقل؛

- التركيز على تأكيد شعوره بالنضج؛

- اكتساب أدبيات وتقنيات التحاور الآلي؛

 هذه بعض الآليات والأدوات التي تفتح جسرالتفاعل بين المتخاطبين، والغاية تلقين الطالب مهارات انفتاحه على محيطه المجتمعي والمعرفي، عبر منهجية تعتمد تنمية التعبير الوظيفي عنده، والتي يفترض من (الأستاذ) أن يبلورها بحسب خبراته وتجاربه وأخلاقيات عمله. أي تمكين الطالب من نفس آليات وأدوات أستاذه مع فتح باب الخلق والإبداع وفقا للشروط التي تفرضها حدود المجال ذاته. بحيث أن الأستاذ في هذه اللحظة هو الذي يقترح الموضوع وهو الذي يبني منهج العمل وهو الذي يوجه.

أما إن كان المرسِل آلة؛ (الحاسوب نفسه)، فإن الإجراءات التفاعلية تختلف شيئا ما عن ذي قبل، بحيث تصبح المسألة مترتبة عما سمي بالتعليم عن بعد، أي أن الحاسوب يصبح في مقام الأستاذ فقط من حيث  المعارف التي  يمتلكها، بل ويزيد عنه بكثير مما لاطاقة له بتحمله. لذلك تفوق الحاسوب في سرعته وذاكرة تخزينه على سرعة وذاكرة الإنسان المحدودة، لكن من دون بلورتها واستثمارها بما يقتضيه الموقف التواصلي بينهما. بل يقتصر فقط على تقديم مجموعة معطيات ومعلومات جاهزة قد ينجح مرات عديدة في تحليلها من حيث الشكل لا المضمون؛ و في حدود ما بُرمج فيه.

2-  المرسَل إليه (هنا الطالب/المستقبل) RECIPTEUR :

هو الطرف الثاني في العملية التواصلية وهو المكلف باستقبال الرسالة، حيث دوره يتمثل في قدرته وكفاءته على فك شفرة Décodage  المرسِل، بوصفه عنصرا فاعلا ومساهما في تعليم ذاته، وليس مجرد متلق مغلق، إذ يتيح لنفسه المجال في تحدي قدراته إلى الخلق والإبداع والتميز. وإلا صَعُب عليه فهمها وتعسَّرت عليه دلالاتها وفشل التواصل فيما بينهما. ومادام هذا الطرف هو عنصر بشري؛ فإن له القدرة و الحق على اتخاذ أي قرار أو أي حكم من شأنه أن يُنجح أو يُفشل العملية التواصلية، بناءا على مبدأ التعاون الذي رسمه كرايس Grice في بعض كتاباته (سنأتي فيما بعد للتفصيل في هذا المبدأ).  ولكن ما إن تدخلت الآلة بينهما، حتى فتحت للفاعل الثاني بالدرجة الأولى باب التحرر، كأن يطرح أسئلة لم يكن ليطرحها من قبل، إما بسبب الخجل أو الخوف على سبيل المثال، هذا إن كان متمكنا أو على الأقل عارفا بكيفية استخدام الحاسوب؛ ولديه من المعلومات ما يؤهله لفتح باب المخاطبة والحوار معه، إذ يمكنه من:

·        تجاوز عزلته عن طريق الإتصال بزملائه؛

·        اكتساب الثقة والرغبة في المزيد من العلم والمعرفة؛

·        السؤال والسؤال المضاد؛

·        الأمر والطلب بحسب طبيعة المعلومة وزمانها ومكانها وكذا زمان ومكان الطلب؛

·        تجاوز العزلة الجغرافية والإجتماعية عن طريق المراسلة الإلكترونية؛

·        تبادل المعلومات التجريبية، واستراتيجيات التدريس والتعلم الفعالة والوصول إلى المعلومات في الوقت المناسب؛

·        الدخول في نقاشات وحوارات حول أحدث الأخبار والمواضيع؛

·        التحرر من عقدة الخطأ والخوف والخجل والتردد..

·        تجاوز سلطة الإمتحان العادي إلى الإمتحان الذاتي....

وغيرها من المعطيات التي يتضح أن أغلبها سيبقى مشروطا - حسب أوستين Austine – بالشروط المشتركة بين المرسل والمرسَل إليه والكامنة وراء إنجاح الفعل التواصلي. إلا أن تدخل الآلة بينهما قد يحول دون هذا التشارك في بعض المواقف، لكن في البعض الآخر إن مثلت الآلة الطرف الثاني فصعب أن تتحقق تلك الشروط على اعتبار مقاميتها، إذ لايمكن للآلة أن تعترف – على الأقل إلى حدود الآن – بما هو مجرد وخارج عن نسق اللغة، ويكفي أن نمثل لذلك  بنية المتكلم Intention  أو مستخدم الحاسوب في إنجاز الفعل التواصلي، إذ لا نِية ولا قَصد عند الآلة. وبالتالي فالفعل التواصلي يتوقف أو يفشل إن لم تتمكن هذه الأخيرة من تنفيذ ما أُمِرت به، وِفقا للخطاب الذي بُرمِج فيها، أو لربما يفشل من مصدره أي من المستخدم نفسه حينما لاينجح في تركيب الأمرCommande أو الخطاب على الوجه الصحيح إما عن جهل أو عن خطأ أو لُبس.

3-             القناة ( هنا الحاسوب) CANAL

أما القناة فهي الجسر أو الوسيط المادي الذي يسمح بقيام مبدأ التواصل بين المرسل (الأستاذ/مستخدم الحاسوب) والمرسل إليه (الطالب/المستقبل)، أي عبر الحاسوب تمر الرسالة. الأمر الذي يوضح أهمية هذا الفاعل، حيث من جهة، يمنح مستعمله فرصة التحرر من سلطة مباشرية الأستاذ، ومن كل الأحاسيس وردود الأفعال السلبية التي كانت تُنقص من كفاءة وقدرة الطالب العقلية والذهنية والنفسية على سبيل المثال. ومن جهة أخرى ترتبط بمدى تعامله مع اللغة الطبيعية، لغة الحوار ولغة التخاطب، أي كيف سيبلورها أو كيف سيؤولها على ضوء ما بُرمج فيه، هل سيكون مساعدا في فهم الخطاب أم في تعتيمه أكثر؟ وهنا تحضر المسألة المتعلقة بدرجات الإدراك و الفهم و التعرف والتأويل. وبوجه أعم ما أُجمل وصفه بالذكاء الإصطناعي والنظم الخبيرة. وما كان للسانيات دور في هذا- إلى جانب علماء الحاسوب وآخرين-  إلا لرفع هذا الهم نحو ما يستوجبه من عناية واهتمام.

وللقناة أيضا أوجه تمثلها لوحة المفاتيح Clavier عبر أسلاك إلكترونية، إن كانت الرسالة كتابية؛ أو هي فيزيائية يوصلها الهواء إلى الميكروفون المثبت على الحاسوب إن كانت الرسالة شفهية. إلا أنه يجب التنبيه على مسألة مهمة في هذا النمط، حيث أن جواب الآلة - عندما تُصبح هي المرسِل- فالقناة آنذاك ستتحول إلى الشاشةL’écran  أو من خلال الطابعة L’imprimante، أو سمعية إن كان الجواب منطوقا عبر جهاز مكبر الصوت Haut-Parleur .

4- المرجع REFERENCE

أما المرجع فهو ما نتحدث عنه من موضوعات العالم، بمعارفه المختلفة والمتباينة، بصيغها المطلقة والمجملة، دون أي تعيين أو تحديد، كأن تقول إننا بصدد الحديث عن النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الكواكب أو الآلات أو اللغات...ولا نعرف ما الذي نريده بالضبط من هذه الكليات، وبصفة أكثر وضوحا أقول إنه السياق المرتبط بمعارف العالم وعوالمه الممكنة، وبالنسبة للنظام نفسه هو قاعدة المعارف. وبالتالي مرجعا متحكَّما فيه - بالضغط فقط - على أزرار التحكم والتوجيه.

5-  الرسالة  MESSAGE

ويمكن وصفها بمضمون فاعل المرجع محددا ومعيَّنا، أي المضمون القضوي للرسالة، بغض النظر عن طبيعتها ما دامت ستحقق التواصل، سواء أكانت لغوية أم غير لغوية (إيحائية) (وإن كانت هذه الأخيرة تؤول في النهاية عن طريق اللغة مما يجعلها في العمق أنظمة لغوية تقتضي دحض القول السوسوري: إن اللسانيات فرع من علم الإشارات.

لكن ربما لن تكون الرسالة واضحة ما لم تتضح ظواهر وسائطها ومستوياتها، تلكم المتمثلة في الصوت والتركيب والمعجم والصرف والدلالة... بدءا من الحرف ونهاية باستثماره وتداوله؛ إذ أن كل كيان من هذه الوسائط ينفرد بخصائص ومميزات تُشكل فيما بينها منظومة لغوية للعربية، ومنها تستمد قوتها وكينونتها ونبوغها بشكل عام.

وهو الأمر الذي حذا بي للحديث عن طبيعة الرسالة العربية أو الخطاب العربي بشكل عام، إذ لايمكن تجاوز ما يمتاز به من خصوصيات لا على مستوى المقولة في البلاغة والفصاحة والبيان، ولا على مستوى الإستعارة والتجريد والمجاز. هذا فضلا عن طبيعة الرتبة وتقابلاتها وحدودها.

إن اللغة العربية بهذا المعنى؛ تقف مع وجود الآلة موقف المتحدي في سبيل ترسيخ مكانتها ضمن لغات العالم.

6-             التشفير (السَّنَن) CODAGE

 هو نسق من القواعد والقوانين التي تسمح بالتعرف على الكيفية التي تؤُول إليها الخاصيات في أنظمة الحاسوب، أو هو مجموع القواعد التركيبية للغة التي تبحث عن التنظيم الممكن والفعال لمختلف العناصر اللغوية، ثم إنه نوعان[1]:واحد منه يعدل ترتيب خصائص الملف، وآخر يستعمل خوارزمات خاصة لتعويض الخصائص الحقيقية بخصائص أخرى غيرها، بحكم أن طبيعة النص أو الرسالة اللغوية لاتكتمل إلا بترميز خاص لاعلى مستوى كتابتها ولاعلى مستوى تفكيكها من حيث الفهم والتأويل. لذلك تتداخل الكتابة والقراءة في الإشتغال على دوال تبني المضامين القضوية للنص في تمثيلات رمزية داخلية مع النظام[2]، وفي تقاطعات مع إواليات القارئ النفسية والمعرفية. فكان لابد لهذا التعالق من أن يجسده مبدأ الإدراك ثم الفهم فالتأويل وفقا لمبدأ عام سمي ب"توحد اللسان"، والتشفير على وجهين:

6-1 التشفير اللغوي: وهو كائن بين المرسل والمستقبل إن كانا يمثلان ذاتا إنسانية، حيث بدونه لايمكن للرسالة أن تُفهم أو تؤول؛ إما بسبب :

- شفرة مُخالفة  بينهما: أي إختلاف في اللسان؛

-  إلتباس في الشفرة: ويعني تعدد في التأويل؛

- جهل الشفرة من قبل المستقبل: ويعني ضعف المعلومات أو المعارف الخاصة بنفس اللغة أو اللسان.

وبناءا على هذه الأمثلة؛ يتضح أن نجاح التواصل رهين باشراك المرسل والمستقبل في الشفرة نفسها واحترامهما لها، لأن التشفير وفكه يجب أن يتم بطريقة موضوعيةٍ منطقيةٍ مثلى، وبوجهيها اللغوي والرقمي.

4-2  التشفير الرقمي: وهو المتعلق بمجموع القواعد والخوارزمات الرقمية التي تُشفِّر كل معطى أو معلومة مُدْخلة Entrée كيفما كانت طبيعتها.

فمادامت شفرات المرسِل ذي الطبيعة اللغوية مختلفة ونظيرتها الرقمية المجسَّدة في أنظمة الحاسوب؛ فإنها تبقى محدودة على حسب ما صُفَّ داخل الآلة وما بُرمِج بها. وعلى ضوء هذا المنطلق أقول: إن شفرة الرسالة التي يمتلكها المرسل (إنسان)، وأراد أن يُحقق بواسطتها أثرا أو تفاعلا بينه وبين المستقبل، أصبحت في هذه المرحلة بالذات لغة إصطناعية؛ أساسها خوارزمات رقمية تعبر عن عناصر خاصة داخل المجموعة الواحدة، إن أردت اسما لها قلت:" اللسان الفلاني أو اللغة الفلانية" طبقا لنظرية المجموعاتThéorie des ensembles  ، أو لنَقُل في حدود أبعد: إن الأمر يتعلق بشفرة خاصة بكل لسان أو بكل لغة، تعبر عنها بشكل جلي الترجمة الآلية حيث أن شفرة كل لسان لابد له من الإنتقال والتحول إلى شفرة اللسان الآخر، إن أردنا للترجمة أن تتحقق. وداخل كل لسان بطبيعة الحال نجد تشفيرات عدة بحسب عدد الحروف أو (الفونيمات) المكونة له.

تدرك دائما؛ أننا ما زلنا داخل خوارزمات النظام، لكن ما إن نخرج؛ حتى تخرج معنا اللغة أو اللسان حاملا معه خصوصية الرمز والشفرة مجسدة هذه المرة في طبيعتها الأصل، أي أن اللغة الرقمية عادت إلى طبيعتها اللغوية، إن لم يقع أي طارئ أو لبس يحيل دون عودتها تلك.

(الدخل) لغة طبيعية                          لغة اصطناعية                         (الخرج)  لغة طبيعية

لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن القول إن هناك لغة طبيعية أصل ولغة طبيعية فرع؟ على اعتبار أن الأولى لاتصل إلى مستقبلها كمعارف إلا بعدما تتحول إلى لغة اصطناعية؟ هل يمكن القول: إن اللغة الإصطناعية هذه أصبحت مشفِّرة و مُفسِّرة للغة الطبيعية في الآن ذاته؟ ثم أن دخل Entrée معطيات اللغة الطبيعية عندما تُبلورها اللغة الرقمية هل يكون خرجهاSortie  معارف صحيحة؟ هذه في الحقيقة بعض التساؤلات تبحث عن إجابات شافية لها من منطلق تحقيق مبدأ التواصل. وربما يسعنا الوقت في مستقبل الأيام للإجابة عنها.  

وعليه فالحاصل على ضوء ما قيل؛ تواصل نسبي يتراوح بين التعرف من جهة؛ وبين الفهم من جهة ثانية، وما بينهما أعمق يبرره الدماغ البشري بفكره وإبداعيته على قدرته في تتجاوز التأويل الواحد إلى تأويلات متعددة، في الوقت الذي يبقى فيه النظام رهين مجموعة محدودة من القواعد والبرمجيات.

ومن هنا نستنتج أن صعوبة تحقيق مبدأ التواصل بين طرفي العملية التواصلية (الإنسان و الآلة) أصبحت على وجهين، لايمكن كشفُها إلا بتجاوز مرحلتي التشفير بنجاح.  

وفيما يلي رسم يشير باختصار إلى أهم مسارات العملية التواصلية بين الإنسان والآلة مع الأخذ بعين الإعتبار أنها عملية تبادلية  La réflexivité  بين طرفيها الأساسين :

المرجع

الشفرة

الرسالة

القناة

   

                                                                               المرسِل (مستخدم الحاسوب/

                                                                                                 المُشفِّر...)

                             

 

 

                               

    المستقبل / المرسل إليه ( فاك الشفرة...)     

                                                                        

 

الرسم (6) : دائرة العملية التواصلية

 



[1] -Marcus Linke & Peter Winkler, ,1998,P140.

[2] - J.M.Pierrel & J.Caelen, 1990,, P161.

 
موقع التربية والثقافة
 
انصر نبيك
 
موقع الشيخ محمد حسان
 
موقع أساتذة اللغة العربية المبرزين
 

اضغط هنا

 
عدد زوار الموقع: 15461 visiteurs
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement